لم يكن مستغربا أن ينبش اليهود عشّ الدبابير مرة أخرى، وهم يقفون أمام حالة مشتبكة توحي بانفجار جديد يعيد إلى الأذهان نذر الحرب العالمية الثانية، حين استولت (الاشتراكية الوطنية) على الحكم في ألمانيا والنمسا وجاءت بأدولف هتلر إلى الحكم.
واليوم، إذ يقترب (النازيون الجدد) أو اليمين المتطرف من سدة الحكم في أكثر من دولة أوروبية، فإن اليهود لا يترددون في طرق جرس الإنذار أمام الحالة العدائية نفسها التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
إلا أن المسألة مختلفة، فالخصم المباشر لليمين المتطرف هم المسلمون، أو المهاجرون إلى أوروبا ممن تضاعفت أعدادهم في أعقاب الحرب الأهلية في سوريا (٢٠١١ وحتى الآن)، وأولئك الفارون من الظروف الصعبة في أفغانستان والعراق.
لهذا من الطبيعي أن يطرح ديفيد فيلدمان، في مقالته على موقع (التاريخ اليهودي) Jewish Chronicle، فرص التقارب بين الأقليتين المسلمة واليهودية في أوروبا ـ في ضوء الشبه الذي قد يجمع ظاهرة ما يعرف بـ (الإسلاموفوبيا) أو رهاب الإسلام، مع ما درج تسميته في أوروبا بـ (معاداة السامية) أو اللا سامية.
ويدعو الكاتب ـ بصورة مفاجئة ـ إلى ضرورة التكاتف بين المسلمين واليهود من أجل الوقوف في وجه الكراهية المتنامية في أوروبا ضد الأجانب.
لكن هذه الدعوة تنطوي على الكثير من التأويلات، ليس من باب ما طرحه فيلدمان في مقالته، وإنما من حيث القواسم المشتركة التي أشار إليها، أو التناقضات الفعلية، أو من خلال المصالح أو الضرر الذي يجمع أو يفرق بين هاتين الأقليتين.
فثمة فجوة كبيرة تفصل المجتمعات المسلمة في بريطانيا ـ مثلا ـ عن نظيرتها (الأقلية اليهودية) وهو الشيء نفسه الذي يتحدث عنه فيلدمان ويُظهر فيما كتبه، أن الهوّة التي باتت تفصل اليهود عن المسلمين مردها إلى الفوارق الكبيرة في التجارب الاجتماعية للطرفين.
فتبعا للكاتب، تعاني نسبة الـ ٥٠٪ من المسلمين من الفقر، مقابل١٣٪ فقط من اليهود. ويشغل المسلمون وظائف رفيعة أقل من نظرائهم اليهود الذي يهيمنون على تلك المناصب في إنجلترا وويلز.
وفيما يميل اليهود إلى دعم حزب المحافظين في بريطانيا، فإن المسلمين أميل إلى دعم حزب العمال، ويُرجع المقال ذلك إلى إقامة دولة إسرائيل التي استفزت هذه الفروقات بين الأقليتين، وبالتالي اختلاف المصالح والتوجهات السياسية.
ويثير فيلدمان مسألة شديدة الأهمية عندما يتحدث عن إيلاء اليهود مكانة أكبر في المجتمع البريطاني تجعل منهم "أقلية نموذجية" من حيث "انضباطها بالقوانين ولكونها أقلية ملهمة للآخرين، ولعدم تناقض إحساسها الكبير بهويتها مع وطنيتها أو متطلبات الانتماء لبريطانيا". ويزيد الكاتب على ذلك بقوله إن النخبة السياسية في بريطانيا تنظر بصورة مغايرة للمسلمين الذين يقبعون في ظل انطباعات سلبية، باعتبارهم "الأقل اندماجا في المجتمع البريطاني"، ولما "يظهره بعض المسلمين من تعاطف مع الإرهاب ومع أعداء بريطانيا".
لكن الكاتب لا يولي فكرة هيمنة اليهود على مجتمع المال والأعمال في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ولما لذلك من تأثير على صناعة الرأي في تلك البلدان أهمية كبيرة في طرح التطمينات التي تفرض سلاما لحظيا بين اليمين المتطرف الغربي واليهود، فاليمين المتشدد الذي يبدو أنه يستسيغ فكرة التحالف المؤقت مع اليهود للوصول إلى سدة الحكم كأي نخبة حاكمة في أوروبا، سوف يأخذ في الحسبان كافة الاعتبارات التي تحد من هيمنة الأبيض ـ المسيحي، وهو ما تجلى في زيارة ماري لوبان، زعيمة تيار اليمين المتطرف في فرنسا إلى إسرائيل قبيل الانتخابات الرئاسية في بلادها.
وعودة إلى ما يقوله فيلدمان من أن مفهوم الإسلاموفوبيا أو رهاب الإسلام، ظهر في التسعينيات، وهو مفهوم ينسجم مع ما يعرف بمعاداة السامية ـ بحسب الكاتب ـ. إذ يرى الباحثون أن الظاهرتين تنسجمان مع بعضهما من حيث رفض الأغلبية المسيحية في أوروبا الغرباء من المسلمين واليهود. ويعتقد الكاتب أن الظاهرتين تمتدان في التاريخ إلى الجذور نفسها، بعد طرد المسلمين واليهود من شبه جزيرة إيبيريا في المنطقة الواقعة بين إسبانيا والبرتغال، عام ١٤٩٢، كما يرجح الكاتب هذا التماهي في عودة اليهود والعرب إلى أصول سامية كعامل يساعد في تحالف يراه منطقيا.
لكن فيلدمان يقر بأن العلاقة بين المسلمين واليهود دخلت مفترق طرق حين تحالفت الإمبراطورية البريطانية مع الحركة الصهيونية في عام ١٩١٧، إثر وعد وزير الخارجية البريطاني، بلفور بإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين.
بيد أن الكاتب يكشف عن جهود حثيثة تسعى إلى التقريب بين اليهود والمسلمين على اعتبار أنهم ضحية مشتركة لليمين المسيحي ـ الأوروبي، من خلال دمج ما يسمى بمعاداة السامية مع الإسلاموفوبيا، ويرى أن هناك تدخلا سياسيا لتحقيق هذا الغرض دون أن يستبعد أن يكون مشروعا فكريا أيضا.